بِسْمِ الله الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
موضوع الدرس اليوم اسم من أسماء الله تعالى ، وهو القُدّوس ، تحدثنا قبل أسبوعين ، عن اسم الملك ، قال تعالى :
[سورة الحشر]
[سورة الجمعة]
وقبل أن نمضي في الحديث عن هذا الاسم الجليل ، أودُّ أن أقف وقفة يسيرة عند مقدمة ضرورية :
كلكم يعلم أن الجماد كائن يشغل حيزاً ، له طول وعرض ، وارتفاع ووزن .. تعلمون ما الحجم ؟ .. هناك نقطة ، النقطة ليس لها حجم ، فإذا تحركت شكلت خطاً ، فإذا تحرك الخط شكَّل سطحاً ، فإذا تحرك السطح شكل حجماً .. نقطة ، خط ، سطح ، حجم ..
الجماد يشكل حجماً ، يعني له طول ، وعرض ، وارتفاع ، ووزن أما النبات ، فيشكل حجماً ، وينمو ، أما الحيوان فيشغل حيزاً ، وينمو ويتحرك ، أما الإنسان فيشغل حيزاً ، وينمو ويتحرك ، ويفكر ، ففي اللحظة التي يعطل فيها الإنسان فكره ، وعقله ، يكون قد انتهت إنسانيته ، وعاد إلى طور البهيمية .. يعني مَن كانت حياته طعاماً وشراباً ، ومتعاً مباحة وغير مباحة ، وعملاً ومالاً ، دون أن يفكر في الذي خلقه ، في الذي أوجده ، أين كان ، أين سيكون ، ما المصير ؟ فما قيمة الإنسان الذي يعطل فكره أو يستخدمه في غير ما خُلق له ؟ ..
يعني : من الممكن أن تشتري حاسوباً بعشرات الملايين ، وتضع على هذا الحاسوب حاجاتك ، ثم تجعله كالطاولة ، أليس هذا غباءً شديداً؟ !.. أن تستخدم جهازاً بالغ التعقيد ، يقدم لك خبرات كثيرة لو أعملته ، تستخدمه كطاولة ؟ ..
فأما الذي يعطل عقله ، أو يستخدمه في غير ما خُلق له ، فهذا الإنسان ألغى إنسانيته ، وتحركت فيه حيوانيته ..
قلت هذه المقدمة ، من أجل أن تعلموا أن الله سبحانه وتعالى أودع في الإنسان قوةً إدراكية ..فما الذي يجب أن يدركه بها ، ما الموضوع؟.. هنا السؤال .
قرأت قبل فترة ، أن ما يُطبع في العالم في اليوم الواحد ، لا يستطيع الإنسان أن يقرأه في أقل من خمسين عاماً ، إذاً هناك موضوعات لا تُعد ولا تُحصى .. ما الذي آخذُ ، وما الذي أدعُ ؟ .. ما الذي أقرأُ ، وما الذي لا أقرأ ؟ .. ما الذي أطلع عليه ، وما الذي أهمله ؟ هذا سؤال خطير .
إذاً لابد من الاصطفاء ، لابد من أن تصطفي الموضوع الخطير والمعنى الخطير ، الذي له علاقة بمصيرك .
يعني إنسان في مكتبة ، أربعة جدران فيها كتب من الأرض وحتى السقف ، وبعد أيام عنده فحص مصيري ، إن نجح في هذا الامتحان سوف يترتب على نجاحه مكتسبات كثيرة ، في هذه المكتبة كلها كتاب واحد مقرر ، له علاقة بهذا الامتحان ، إذاً من البديهي أن يدع كل هذه الكتب ، وأن يقرأ هذا الكتاب .
إذاً فالإنسان أُودع فيه قوة الإدراك ، أُودع فيه العقل :
" لمَّا خلق الله العقل ، قال أقبل فأقبل ، ثم قال أدبر فأدبر ، قال وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أحب إلي منك ، بك أعطي وبك آخذ " .
إن سألتموني عن أعظم شيء خلقه الله في الكون ، أقول لكم العقل لأنه مناط التكليف ، لولا هذا العقل الذي أودعه فيك ما كلفك ، والعقل وسيلة معرفة الله عز وجل .
قلنا في درس سابق ، إن المشكلة : بما أن النفوس من طبيعة واحدة فلو أن أَيَّ إنسان بعيد عن الله عز وجل عرف ما عرف المؤمن لأقبل على الله كما يقبل المؤمن ، لو أن أي إنسان عرف ما عرفه رسول الله لأحب الله كما أحبه رسول الله ، النفوس واحدة ، والدليل ، قال تعالى :
[سورة النساء]
من طبيعة واحدة ، من جبلة واحدة ، من خصائص واحدة ، مادامت طبيعة النفس واحدة التفاوت إذاً في ماذا ؟ .. في العلم ..
لذلك قالوا : يفعل الجاهل في نفسه ما لا يفعله عدوه به ..
مزارع عنده حقل ، مزروع نبات له ريع كبير ، قُدِّرت هذه المساحة المزروعة بهذا النباتَ وَريعُها في الموسم الواحد يزيد عن مائتي ألف ليرة من البيوت المحمية ، فاشترى دواءً كيمائياً ، وحله من دون تعليمات الصانع ، ورشَّه .. كل هذا النبات مات من فوره ، وخسر الموسم كله فهذا الإنسان الجاهل ، إذ لم يقرأ التعليمات ، فعل في نفسه ما لا يفعله عدوه به.
إذاً الأزمة أزمة معرفة ، أزمة علم .. المشكلة الأخطر ؛ أن الإنسان حينما يأتيه الموت سيعرف كل شيء ، وسينكشف له كل شيء ، وسيرى الحقيقة ، وسوف ينكشف له الغطاء .. لقد رأى فرعون ما رآه سيدنا موسى ، ولكن بعد فوات الأوان ..
المشكلة أن المعرفة ينبغي أن تكون في الوقت المناسب ، يعني ينبغي أن تعرف ما يناسب في الوقت المناسب ، ينبغي أن تصطفي من كل المعارف والمعلومات الشّيء المناسب ، وأن تعرفه في الوقت المناسب.
والسؤال الجديد الآن : لماذا يجب أن نعرف الله ؟ .. أليس هو غني عن المعرفة ؟