نعم الله على الإنسان كثيرة، لا تعد ولا تحصى، قال تعالى: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إبراهيم:34، ومن هذه النعم نعمة اللسان، لذا يذكرنا ربنا أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ البلد:8-9، فباللسان ينطق الشهادتين، ويؤدي الصلاة، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وينشر العلم والذكر وسائر العلم النافع، لذا ما من يوم يصبح فيه العباد إلا يقول أعضاء الجسم للسان اتق الله فينا فإن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا، واللسان أحد المنافذ التي ينفذ بها الشيطان إلى الإنسان، قال الإمام النووي: ينبغي لكل مكلف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلا كلاما ظهرت فيه المصلحة الدينية أو الدنيوية فإذا استوى الكلام والسكوت فالسكوت أفضل ، وإن شك هل في كلامه خيرأو لا فالأفضل ألا يتكلم، لأن السلامة من آفات اللسان لا يعدلها شئ، قال رسول الله r : (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ). والخير نوعان الأول خير في ذات الكلام، كقراءة القرآن والتسبيح والتهليل وما أشبه ذلك، والثاني خير لغير الكلام بمعنى أن الكلام مباح لكن يجر إلى مصلحة كتأليف القلوب لأن الإنسان لو بقي ساكتا في مجلس الناس يملوه ولا يحبوه لكن إذا تكلم بما يدخل السرور عليهم بالكلام المباح فإنه من الخير. وقد يتكلم الرجل الكلمة التي ترضي الله لا يظن أن يكون لها قدرا فيتقبلها الله ويجعل لناطقها القدر والمنزلة، وقد يتكلم العبد بالكلمة دون تدبر فتكون سببا لهلاكه، قال رسول الله r ( إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يلقي لها بالا يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالا يهوي بها في نار جهنم ) فهناك آفات كثيرة يقع الإنسان فيها بسبب لسانه، من هذه الآفات ما بينته سورة الحجرات في آيتين كريمتين، قال تعالى: ( يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِٱلاٌّلْقَـٰبِ بِئْسَ ٱلاسْمُ ٱلْفُسُوقُ بَعْدَ ٱلاۤيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ * يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيم) ، ولنقف مع الآيتين لنتدبر هذه الآفات سائلين الله أن يحفظنا منها :
1- السخرية من الآخرين
والسخرية هى(الإستهزاء بشخص أو تحقيره أو ذكر عيوبه ونقائصه) في (كلامه أوفعله أوصورته أوما يمت له بصلة)، وقد يكون ذلك( بالتقليد أو بالقول أوبالإشارة أوالكتابة أوالرسم)،قال ابن عباس في قوله تعالى: لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا الكهف:49، قال: الصغيرة هي التبسم والاستهزاء بالمؤمن، والكبيرة هي القهقهة بذلك.
وقد تحدث السخرية بسبب من هذه الأسباب:
1)السخرية لأنهم في نعيم الدنيا: بعض الناس يظن أنه بما يملك من زينة الحياة الدنيا صار له المكانة والمنزلة فيحق له السخرية ممن هو دونه لأن النعيم الذي يعيشه أمر مستحق له، والقرآن الكريم يحكي لنا عن الكافرين وقد زينت لهم شهوات الدنيا ونعيمها حتى نسوا الآخرة، وأشربت محبتها في قلوبهم حتى تهافتوا عليها وأعرضوا عن دار الخلود، وكان عظيم اهتماهم هو السخرية من المؤمنين واتهامهم بقلة العقل لتركهم الدنيا وإقبالهم على الآخرة، قال تعالى: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ البقرة:212،وكما لم يسلم المؤمنون من السخرية، لم يسلم كذلك رسل الله من سخرية أقوامهم رغم أنهم يدلونهم على الخير، قال تعالى: وَلَقَدِ ٱسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِٱلَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ الأنعام:10، ويضرب القرآن مثلا بنبي الله نوح قال تعالى: وَيَصْنَعُ ٱلْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ هود:38.
2)السخرية لأنهم أغنياء: بعض الناس ينظر إلى غناه وفقر الآخرين أن ذلك تقديرا له وينسى قوله تعالى: وأنه هو أغنى وأقنى النجم:48، فإذا وجدوا الفقراء يتوددون إلى الله جعلوهم مادة للسخرية، والقرآن الكريم يحكي لنا حال الفقراء( بلال وخباب وصهيب) وهم يتضرعون إلى الله بطلب الرحمة والمغفرة فإذا بأبي جهل وأصحابه يسخرون منهم، قال تعالى: إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِى يَقُولُونَ رَبَّنَآ ءَامَنَّا فَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرَٰحِمِينَ * فَٱتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّىٰ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّى جَزَيْتُهُمُ ٱلْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوۤاْ أَنَّهُمْ هُمُ ٱلْفَآئِزُونَ المؤمنون109-111، لذلك يصور لنا ربنا حال هؤلاء الساخرين يوم القيامة، فيقول: وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نَرَىٰ رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ ٱلاٌّشْرَارِ * أَتَّخَذْنَـٰهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ ٱلأَبْصَـٰرُ * إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ ٱلنَّارِ ص:62-64.
3)السخرية بسبب الشكل والهيئة: ولذلك لما سخر وفد بني تميم من فقراء الصحابة لما رأوه من رثاثة حالهم قرأ عليهم رسول الله قوله تعالى: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ الحجرات:11، والذين يسخرون من الآخرين لشكلهم وهيئتهم ينسون قوله تعالى: هُوَ ٱلَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي ٱلاٌّرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُآل عمران:6، ولذلك روي أن عبد الله بن مسعود كان يجتني سواكا من الأراك وكان دقيق الساقين، فجعلت الريح تكفؤه، فضحك القوم منه فقال رسول الله مم تضحكون؟ قالوا يا رسول الله من دقة ساقيه، فقال والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من جبل أحد، وروي أن السيدة عائشة قالت لرسول الله في حق السيدة صفية: حسبك من صفية أنها قصيرة، فقال لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته.
4)السخرية من العاصين: فإن امتن الله عليك بأن جعلك على الطاعة فاحمد الله ولا تسخر من العاصين بل انصحهم وخذ بأيديهم إلى طاعة الله، قال رسول الله : من عير أخاه بذنب قد تاب منه لم يمت حتى يفعله ، وقال أيضا: لا تظهر الشماتة بأخيك فيرحمه الله ويبتليك ، وقال ابن مسعود: البلاء موكول بالقول لو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلبا.
5) السخرية من انجاب البنات: بعض الناس ينظر إلى هبة الله له بالبنين والبنات نظرة لا تليق بفضل الله عليه، فيسخر ممن رزق بالبنات فقط، أو يسخر ممن منع الإنجاب، وينسى قول الله تعالى: لِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَـٰثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ٱلذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَـٰثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ الشورى:49-50.
احفظ لسانك من هذه الألفاظ
بعض الناس عند السخرية من الآخرين قد يتلفظ بألفاظ لا يتنبه لها، وهي في الحقيقة شرك لفظي أوعدم أدب مع الله، مثل:
(يدي الحلق للي بلا ودان) وفيها اعتراض وسخرية على تقسيم الله للأرزاق كأنه يعطي من لا يستحق، وهذا لا يليق به سبحانه وتعالى) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَـٰتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (الزخرف:32، والصواب القول: سبحان من يقسم الأرزاق.
(رزق الهبل على المجانين)( ربنا يعطي بالهبل) وفيها اعتراض وسخرية لحصول الفقراء أو البسطاء على أي رزق دنيوي، ولولا قلة حيلتهم لما رزقهم الله، ونسوا أنه سبحانه المتكفل بالأرزاق لجميع مخلوقاته، قال تعالى: )وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلاٌّرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُّبِين(هود:6،والصواب القول: لا حد لعطاء الله.
( لا بيرحم ولا بيخلي رحمة ربنا تنزل)وفيها سخرية من المتمسكين بالرأي، فمن هذا المخلوق الذي يستطيع أن يوقف رحمة الله، قال تعالى
مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ (فاطر:2، والصواب القول: يرحمه ويرحمنا الله.
( خشب الله عبد الناشف) وفيها سخرية من النحيف الجسم، فهل ( الناشف) من أسماء الله حتى يكون الإنسان عبدا له، قال تعالى) إِن كُلُّ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ إِلاَّ آتِى ٱلرَّحْمَـٰنِ عَبْداً ( مريم:93.
(ثور الله في برسيمه) وفيها سخرية من العقل والتفكير، حيث ثور الله يرمز له الغباء دون أي ثور، وهو سوء أدب مع الله، قال تعالى
ما لكم لا ترجون لله وقارا( نوح:13.
( ربنا افتكره) فهل الله ينسى، قال تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّا ً) مريم: 64، وقال: (لاَّ يَضِلُّ رَبِّى وَلاَ يَنسَى) طه:52
( لا حول الله يارب) فهي تنفي الحول والقدرة عن الله والصواب أن يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، قال تعالى: (وَلَوْلاۤ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ ٱللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِٱللَّهِ) الكهف:39.
( حاجة تقصر العمر) وهذا باطل، فالعمر محدود لا يستطيع كائن أن يقصره، قال تعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ) الأعراف:34
( مولد وصاحبه غايب) وفيه إنكار لوجود الله وتأثيره في خلقه فالله سبحانه لا يغيب عنه مثقال ذرة، قال تعالى: (وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي ٱلاٌّرْضِ وَلاَ فِى ٱلسَّمَآءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذٰلِكَ وَلاۤ أَكْبَرَ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ) يونس:61.
(أنا اصطبحت بوش مين، وشه يقطع الخميرة من البيت، وجهك نحس،حظك هباب، المتعوس متعوس حتى لو حطوا على رأسه فانوس) وهذا القول وأشباهه من الخطأ، قال تعالى
مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) التغابن: 11
( ليه كده يارب) أي لماذا فعلت بي هذا يارب، مع أنني لم أقصر في حقك؟ وهذا سوء أدب مع الله واتهام له بالظلم، قال تعالى: (وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ) الكهف: 49.